السينما الأمريكية- أداة لبناء القوة السياسية وتشكيل العلاقات الدولية.

المؤلف: د. سليمان صالح08.15.2025
السينما الأمريكية- أداة لبناء القوة السياسية وتشكيل العلاقات الدولية.

تكشف دراسة معمقة لتاريخ السينما عن الدور المحوري الذي لعبته الدول في تسخيرها لتعزيز نفوذها السياسي والتأثير في الرأي العام. تجسد ذلك في نشأة علاقة استراتيجية وثيقة بين استديوهات الإنتاج السينمائي والإدارة الأمريكية بمختلف مؤسساتها، وعلى رأسها وزارة الخارجية.

في إطار هذه الشراكة الوطيدة، استغلت الإدارة الأمريكية السينما كأداة فعالة لنقل رسائلها إلى مختلف شعوب العالم، ورسم صورة مشرقة عن أمريكا، وتشويه صورة خصومها، وتحديد الدول الجديرة بالثقة وإقامة علاقات متينة معها. من هذا المنطلق، يرى الباحث روبرت جريج أن الأفلام السينمائية بمثابة نوافذ تطل منها على العلاقات الدولية.

في فيلم "أرمجدون" الأمريكي، ينهض الأمريكي الشجاع بمسؤولية إنقاذ الكوكب من الدمار الوشيك، في مشهد يجسد قدرة أمريكا الفريدة على التصدي للتحديات الكونية. وتبتسم له شعوب العالم عرفانًا بجهوده الجبارة وتفانيه في حماية البشرية، بينما هم غافلون عن المخاطر المحدقة بهم.

ترسيخ العلاقات عبر الثقافة الشعبية

تشير عالمة السياسة الأمريكية سنثيا ويبر إلى أهمية عامل حاسم في بناء العلاقات الدولية وتطبيعها، ألا وهو غرس أفكار ووجهات نظر دولة معينة في صميم الثقافة الشعبية. وهذا يبرز الأهمية القصوى لدراسة العلاقة المتينة بين السياسة والثقافة الشعبية، والتوصل إلى توافق حول هذا الخطاب المؤثر.

يؤكد الباحث التركي علي فؤاد شينجول في رسالته لنيل درجة الماجستير من جامعة الشرق الأوسط التقنية، أن السينما تمثل وسيلة أيديولوجية قوية، وأن هناك علاقة متشابكة ومعقدة بين الأفلام والقوة. فالأفلام تحدد هويتنا في مواجهة الآخر، وترسم حدود الانتماء والاختلاف.

المعاني الضمنية والدعاية القومية

نجح صناع الأفلام ببراعة في تطوير أساليب مبتكرة لإخفاء الدعاية القومية وغرس المعاني الخفية في نفوس المشاهدين دون وعي منهم. على سبيل المثال، تسعى هوليود جاهدة لترسيخ قناعة لدى المشاهد بأن أمريكا هي القوة العظمى التي تتحمل مسؤولية الحفاظ على أمن العالم واستقراره.

هذا المعنى الضمني يخدم مصالح الولايات المتحدة في حث العالم على تقبل دورها المحوري كمحرك للأحداث وشريك فاعل في بناء العلاقات الدولية. كما يهدف إلى جعل المشاهدين في الدول الضعيفة يتقبلون التبعية الأمريكية كأمر واقع لا مفر منه. وقد تجسد هذا المعنى بوضوح في العديد من الأفلام الغربية التي أنتجت في أعقاب أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001.

وهكذا، تتسلل الدعاية القومية بخفاء إلى عقول المشاهدين، ويخضعون دون إدراك لمنظومة من الأحكام والقيم التي تسعى الولايات المتحدة إلى فرضها على العالم بأسره.

صياغة المشهد العالمي

دأبت الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على استخدام السينما كأداة قوية لبناء مشهد عالمي ترسخ فيه مكانتها كقوة عظمى مهيمنة، وتطبيع سياساتها الخارجية، وتوفير الأساس الأخلاقي والسياسي لقراراتها وأفعالها من خلال الترويج لمجموعة من المعاني الخفية التي تتضمنها الأفلام.

على سبيل المثال، تحمل أفلام شهيرة مثل "يوم الاستقلال" (1996) و"أرمجدون" (1998) رسالة رئيسية مفادها أن أمريكا هي مركز الكون، وبالتالي فإن تدمير واشنطن يعني نهاية العالم. لذلك، يتحمل الأمريكيون عبء إنقاذ العالم حتى من قوى الطبيعة القاهرة. فالولايات المتحدة تستخدم الأفلام لترسيخ فكرة أن الأمريكيين يتحملون مسؤولية إنقاذ الجنس البشري، وأن واشنطن هي قلب العالم النابض.

ويوضح ذلك جليًا العلاقة المتينة بين أهداف السياسة الخارجية الأمريكية وشركات الإنتاج السينمائي العملاقة، وأن هذه الشركات تعمل بدأب لفرض السيطرة الأمريكية على العالم، ودفع الشعوب لتقبل التبعية للمركز الذي يعمل على إنقاذ البشرية من المخاطر المحدقة.

يقول الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت: "السينما مكون اقتصادي واجتماعي بالغ الأهمية في المشروع القومي الأمريكي".

فيلم أرمجدون: الشعوب تبتسم لأمريكا

في فيلم "أرمجدون" الأمريكي، يضطلع الأمريكي المغوار بمسؤولية إنقاذ الأرض من الدمار الشامل، في مشهد يجسد قدرة أمريكا الفريدة على التصدي للتحديات الكونية. وتبتسم له شعوب الأرض امتنانًا لجهوده المضنية وتفانيه في حماية البشرية جمعاء، بينما هم غافلون عن الأخطار التي تتهددهم.

هذا المعنى الضمني يتكرر أيضًا في فيلم "يوم الاستقلال"، حيث يظهر الشعب الأمريكي كالشعب الوحيد القادر على إنقاذ العالم، وشعب يدرك مسؤوليته جيدًا، وقادر على تحملها بجدارة واقتدار.

السياسة السينمائية الأمريكية

من خلال تحليل دقيق للأفلام الأمريكية، يمكننا استشفاف أهداف السياسة السينمائية الأمريكية، والدعاية القومية الأمريكية التي يتم الترويج لها بشكل خفي وغير مباشر في الأفلام. ومن أبرز المرتكزات الأساسية التي تقوم عليها هذه الدعاية ما يلي:

  • مسؤولية الولايات المتحدة عن إنقاذ الأرض وحماية العالم من الشرور.
  • الولايات المتحدة هي البطل الأسطوري (سوبرمان) الذي لا يقهر.
  • يجب أن تكون الشعوب ممتنة للدور الذي تقوم به الولايات المتحدة لأنه يهدف إلى حمايتها وإنقاذها.
  • الولايات المتحدة تجسد "الخير" المطلق، بينما يمثل أعداؤها "الشر" المستطير.

السينما مشروع قومي أمريكي

في ضوء ما سبق، يمكننا فهم مقولة الرئيس الأمريكي الأسبق فرانكلين روزفلت: "السينما مكون اقتصادي واجتماعي مهم في المشروع القومي الأمريكي". وبتوجيه منه، اضطلعت شركات الإنتاج السينمائي بدور حيوي في الحرب العالمية الثانية من خلال التأثير في اتجاهات الجماهير، وتصوير البطولة الأمريكية، وتهيئة الشعوب لتقبل الهيمنة الأمريكية على العالم.

وخلال الحرب الباردة، لعبت السينما الأمريكية دورًا محوريًا يوضح مكانتها الراسخة في المشروع القومي الأمريكي، ووظيفتها السياسية والدعائية. وقد أكدت الحرب الباردة أن السينما قوة هائلة تستخدم في التأثير على معتقدات الشعوب وتوجيهها. فقد شنت السينما الأمريكية حربًا دعائية وأيديولوجية شرسة على الاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية، وشكلت حالة من العداء الشديد للشيوعية في الدول الغربية.

التحليل السياسي للرسائل السينمائية

هذا الدور البارز الذي قامت به السينما الأمريكية خلال الحرب الباردة يوضح الأهمية القصوى لدراسة الأفلام بمنظور تحليلي سياسي يهدف إلى استكشاف الأفكار والرسائل التي تعمل السينما على غرسها في أذهان الشعوب، والتي تشكل أساسًا لبناء العلاقات بين الدول. فتلك الأفكار قد تكون أشد تأثيرًا من أسلحة الدمار الشامل. فقد أسهمت السينما بدور فعال في تفكيك الاتحاد السوفياتي، وتحقيق النصر الأمريكي في الحرب الباردة.

لكن ذلك لا يعدو كونه مجرد مثال واحد للدور المهم الذي تقوم به السينما في بناء العلاقات الدولية، وتشكيل صورة العالم في أذهان الشعوب.

دائمًا على حق

لقد عمدت السينما إلى بناء صورة نمطية لأمريكا على أنها دائمًا على حق، ونزعت الصفة الإنسانية عن الأعداء، وأثارت الكراهية والخوف من الدول المعادية. كما تقوم السينما بترسيم الحدود بين "الأنا" و "الآخر". وتعمل السينما الأمريكية بشكل عام على إضفاء الشرعية على السياسة الخارجية الأمريكية وعلاقاتها بالدول، وعلى فكرة أنها يجب أن تسيطر على العالم لتقوم بمسؤوليتها العالمية في إنقاذه والدفاع عن الشعوب الطيبة ضد الدول الشريرة.

علاقات دولية في إطار السيطرة

في ضوء ذلك، تتم صياغة العلاقات الدولية في إطار نظام دولي يقوم على تبرير السيطرة الأمريكية. وتلعب السينما دورًا كبيرًا في بناء نظام العلاقات الدولية من خلال دفع الشعوب لتقبل الأسس الأيديولوجية للسيطرة الأمريكية. وقد بنت أمريكا استراتيجيتها السينمائية بعد الحرب العالمية الثانية لتأكيد مشروعية السيطرة الأمريكية على العالم، وأنه من الطبيعي أن تخضع لها الدول الضعيفة وتقبل التبعية لها بوصفها الممثل الشرعي للعالم.

الوظيفة الأيديولوجية للسينما

توصل الباحث التركي علي فؤاد شينجول إلى نتيجة مهمة مؤداها أن صناعة السينما الأمريكية تقوم بوظيفة أيديولوجية، وتعمل على تحقيق أهداف السياسة الخارجية الأمريكية. ومن أهم مكونات هذه الوظيفة الأيديولوجية تصوير هوية الدولة الأمريكية على نحو جذاب ومقنع.

احتلت السينما الأمريكية مكانة مرموقة في النظام الأمريكي، فهي مؤسسة تقوم بدور لا يقل أهمية عن دور أي مؤسسة أخرى، ويتكامل دورها مع هذه المؤسسات. إنها قوة سياسية هائلة تستخدمها الولايات المتحدة في فرض سيطرتها على العالم، وهذا يوضح الدور المحوري الذي تقوم به السينما في بناء العلاقات الدولية. فالدول تعمل في سياق يقوم على صور ذهنية ونمطية أسهمت السينما في غرسها في أذهان الشعوب.

خرافة التسلية

يتضح مما سبق أن مقولة "إن التسلية هي الهدف الرئيسي للسينما، وإن الفن للفن" ما هي إلا خرافة روجت لها شركات السينما الأمريكية للتغطية على الدعاية غير المباشرة والمعاني الخفية التي تعمل الأفلام على غرسها في أذهان الشعوب، ومن بينها فكرة أن الدول يجب أن تخضع لسيطرة أمريكا وتقبل التبعية لها لأنها مركز العالم.

لذلك، يجب على الدول أن تصوغ علاقاتها مع جميع دول العالم على هذا الأساس، وأن تبتعد عن بناء تحالفات لا ترضى عنها الولايات المتحدة حتى لا يتم تصنيفها في محور الشر الذي تعمل أمريكا على حماية الشعوب من خطره وتهديده. وهكذا، هيأت السينما الأمريكية أذهان الشعوب لتقبل الاستعمار الجديد والنيوليبرالية والرأسمالية والسيطرة الأمريكية، ودفعتها إلى عدم التفكير في الثورة على هذا الواقع المر، وعدم مقاومة الاستغلال الرأسمالي.

إنها سينما تصنع الواقع الذي تبني الدول علاقاتها فيه وتفكر في إطاره. ولكن بناء المستقبل المشرق يتطلب ثورة شاملة على هذا الواقع المرير وعلى ثقافة العبودية والخضوع لأمريكا، والتحرر من القيود لبناء تحالفات عالمية جديدة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة